كفى حربًا- اليمن ينزف، متى تتوقف القيادات؟

إلى قادة الحرب في اليمن، من كلا الطرفين، أتوجه بنداء مباشر وصريح، متجاوزًا التقارير والمعلومات الجاهزة، ومنأى عن مسارات التحليلات المعقدة، بعيدًا عن ضراوة التدخلات الإقليمية والدولية، وأهوال حروب الوكالة التي تخوضونها، أقول لكم: كفى! لقد تجرع اليمن على أيديكم صنوفًا من المعاناة تفوق الوصف، سبع سنوات عجاف مضت وأنتم في اقتتال دائم، فماذا جنيتم لليمن غير المآسي والخراب والدمار الشامل؟ لمن تقاتلون؟ وإلى متى ستستمرون في هذه اللعبة المميتة المدمرة، وأنتم تدركون تمام الإدراك أنكم تسلكون دروبًا خاطئة؟
إلامَ ستستمرون في إراقة دمائكم بأيديكم، وتمزيق أوصالكم؟ أين ذهبت حكمة أهل اليمن؟ كيف استسلمتم لغواية السلطة الزائلة، وبريق الزعامة الخادع، ومكائد القوى الإقليمية والدولية، ورخصت لديكم أرواح أبناء اليمن وأرضه؟ ما الذي تنتظرونه بعد كل هذا؟ بعد عشرات الآلاف من القتلى الذين حصدتهم آلتكم الحربية، ومئات الآلاف من الجرحى الذين يئنون تحت وطأة الألم، وملايين النازحين والمشردين الذين فقدوا ديارهم ومستقبلهم، وبعد الخراب الهائل الذي طال كل شبر من اليمن، ودمر بنيته الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والزراعية والصناعية والتجارية؟
لماذا تُصِرُّون بإستماتة على المضي قدمًا في هذه الحرب العبثية المجنونة؟ عبثية، لأنها حرب بين أبناء الوطن الواحد، لا يوجد فيها عدو حقيقي، ولا تستند إلى هدف نبيل، ولو كان لها هدف، فهو بالقطع هدف مستحيل التحقيق، حرب لا فائز فيها، فالجميع فيها خاسرون، اليمن بأكمله هو الخاسر الأكبر، والرابح الوحيد من هذا الصراع الدامي هو الدمار والخراب والمعاناة المتغلغلة في كل زاوية من زوايا الوطن.
تهاجر السنون مسرعة كالبرق الخاطف، بينما أنتم منشغلون على مدار الساعة بتفاصيل معارككم السياسية والعسكرية ضد بعضكم البعض، ولكن هذه السنوات تمر ببطء مميت على ضحاياكم، المتراصين في المستشفيات والمقابر، والمهجرين قسرًا في مخيمات النزوح، والمنتظرين على بوابات المنظمات الإغاثية ومكاتب الهجرة. تتأرجحون بين نشوة الانتصارات الموهومة ومرارة الهزائم المتلاحقة، بينما يتقلب ضحاياكم بين الجنائز والجراح والأنين والدموع والجوع القاتل والمرض المستشري والتشريد المرير والخوف الدائم والقهر المتزايد والمطاردة المستمرة والدمار الشامل والخراب الذي يتربص بهم في كل مكان. والأدهى من ذلك كله، أنكم لا تشعرون بحقيقة هذه المعاناة وتفاصيلها المؤلمة، وتظنون -زُورًا وبهتانًا وتكبرًا- أن الشعب يتحمل كل هذا عن طيب خاطر، وفاءً لكم وتضحيةً زائفة لشعاراتكم البراقة.
إلى متى ستستمرون في هذه الحرب العبثية المجنونة؟
لماذا تتمادون في الاستمرار في هذا الصراع الدموي الدائر؟ ما الذي تصبو إليه من هذه الحرب الطائشة؟ نعم، هي حرب عبثية مجنونة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عبثية لأنها تدور رحاها بين أبناء الوطن الواحد، ولا يوجد فيها عدو حقيقي يسعى للنيل منكم، ولأنها حرب بلا هدف واضح، ولو كان لها هدف، فهو هدف مستحيل المنال، تفتقر إلى وجود منتصر حقيقي، فالجميع فيها خاسرون، اليمن بأكمله يدفع الثمن غاليًا، الشعب اليمني برمته يعاني الأمرين، فحاضر اليمن ومستقبله يقف على مفترق طرق مظلم، والمنتصر الوحيد هو الدمار والخراب والمعاناة المتفاقمة التي تجتاح كل مكان. ومجنونة، لأنها لا تخضع لمنطق العقل، ولا تلتزم بقواعد الحكمة أو الضوابط أو الأصول المتعارف عليها، ولأن أطرافها يصرون بإستماتة على الاستمرار فيها رغم كل هذه المثالب.
فأين الحكمة اليمانية يا أولي الألباب؟ كيف تغيب عنكم الحكمة كل هذه المدة؟
تطلعوا إلى الأمام قليلًا، ماذا سيبقى لكم من اليمن إذا استمرت الحرب المشتعلة لعقد آخر من الزمان؟ ستظلون متمسكين بمناصبكم، متشبثين بكراسيكم، تتغنون بانتصاراتكم الوهمية، وتترحمون على هزائمكم المتكررة، وتتبادلون الاتهامات والإدانات، في الوقت الذي يتضاعف فيه عدد القتلى والجرحى والنازحين والمشردين، حتى لن يبقى لكم من اليمن سوى مقاعدكم ومقاعد أتباعكم وأنصاركم.
أعتقد أن الخبرة التي اكتسبتموها من سنوات الحرب الطاحنة التي ولت، تؤكد لكم بما لا يدع مجالًا للشك أن الاستمرار في هذه الحرب هو ضرب من العبث والجنون.
النموذج الليبي
لقد تمكنت القوى الليبية، بعد أن ذاقت مرارة الحرب وويلاتها، من التوصل إلى اتفاق فيما بينها على إنهاء القتال والانتقال السلمي بالدولة من خلال تشكيل حكومة انتقالية تمهد الطريق لإجراء انتخابات ديمقراطية يتنافس فيها الجميع في صناديق الاقتراع، وتجنب ويلات المدافع الرشاشة وما تحمله من موت ودمار. وعلى الرغم من أن الطريق إلى ديسمبر/كانون الأول القادم -موعد إجراء الانتخابات- ليس معبدًا بالورود، بل محفوف بالعديد من الصعاب والمخاطر، فإن هذه الخطوة في حد ذاتها تمثل نقلة نوعية في الاتجاه الصحيح، نحو الانتقال من ثقافة الخنادق المظلمة وغرف العمليات المغلقة وقيادة المعارك العسكرية، إلى ثقافة التفكير العميق في الوطن وهموم الشعب، وتقديم التنازلات المتبادلة من أجل الحفاظ على المصالح العليا للبلاد، بما يحقق التوازن المنشود لمصالح الأطراف المتنازعة.
إن هذه التجربة الليبية الناجحة وما حققته من تقدم ملموس، يجب أن تكون بمثابة حافز قوي يدفعكم للاقتداء بها، والانتقال الفوري إلى ساحة العمل السياسي الرشيد مع سائر الأطراف اليمنية، من أجل التوافق على مرحلة انتقالية عادلة، تسمح لليمن وللشعب اليمني بلملمة الجراح الغائرة، ودفن الشهداء الأبرار، وترميم ما تبقى من صرح الوطن الشامخ، لكي يقف اليمن من جديد على قدميه، وينطلق في مسيرة التنمية والتقدم على أسس وطنية راسخة، تكفل للأجيال القادمة مستقبلًا مزدهرًا وغدًا مشرقًا.
نعم، هناك العديد من العقبات الإقليمية والدولية التي ستسعى جاهدة لتقويض جهود المصالحة، ولكن السبب الأكبر يكمن في دواخلكم، وفي مدى إرادتكم الصلبة، ومستوى استقلاليتكم الحقيقية، وفي مدى انتمائكم الصادق لليمن وللشعب اليمني الأصيل، ومدى حرصكم الشديد على مستقبل اليمن ومقدراته وثرواته. وهذا كله رهن بإرادتكم أنتم، لا بيد غيركم من الأطراف الإقليمية والدولية التي لا تضع نصب أعينها إلا مصالحها الضيقة، وقد حان الوقت لتتحركوا انتم أيضًا بدافع مصالحكم العليا، كيمنيين قبل أي شيء آخر.
تمعنوا في قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالحرب الدائرة بينكم، والتي لطالما أكدت على وحدة اليمن وسيادته واستقلاله وسلامته الإقليمية، وعلى وقوفها الدائم إلى جانب الشعب اليمني، وعلى ضرورة تسوية الخلافات بالحوار السلمي، وعلى نبذ العنف لتحقيق الأهداف السياسية المشروعة، ولكنها في الوقت نفسه كانت تتجاهل محاولات تقسيم اليمن، وانتهاك سيادته، وسلب استقلاله، وكانت تغذي آلة الحرب الطاحنة لتقضي على سلامته، وتدمر مقدراته، وتزيد من معاناة شعبه. إنها الحرب الاستخباراتية الخبيثة التي أحاطت بكم، وأشعلت بينكم أوارها المستعر لتحقيق مصالحها الخاصة، الإقليمية والدولية، وأنتم تعلمون هذا جيدا.
خطوات نحو المصالحة
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها اليمن حربًا أهلية مدمرة في تاريخه المعاصر، ومن الضروري الاستفادة من الدروس والعبر التاريخية لهذه الحروب للتخلص من أتون الحرب الدائرة في أسرع وقت ممكن، بل والاستفادة كذلك من تجارب الدول الأخرى التي شهدت نزاعات وحروبًا أهلية طاحنة على المستويين العربي والعالمي، ولكي تتقدموا إلى الأمام نحو تحقيق المصالحة المنشودة، يجب القيام بالعديد من الأعمال التأسيسية المساعدة على ذلك، وفي مقدمتها:
1. إعلان وقف شامل للحرب
إعلان وقف شامل ودائم لإطلاق النار في جميع أنحاء اليمن، يستمر حتى يتم التوصل إلى حل شامل وعادل يرضي جميع الأطراف المعنية.
2. المحافظة على يمنية الحل
التأكيد بكل قوة على أن الحل يجب أن يكون يمنياً خالصاً، تحت إشراف الأمم المتحدة، وأن تنعقد جلساته في قلب العاصمة صنعاء، بعيداً عن أي تدخلات خارجية إقليمية أو دولية.
3. قطع شرايين الإمداد الخارجية
التوقف الفوري عن استقبال المساعدات المالية والعسكرية التي تأتيكم من الدول الإقليمية الداعمة لكم من أجل تحقيق مصالحها الخاصة، وليس من أجل مصالحكم أنتم.
4. إعادة الحياة الطبيعية إلى اليمن
بالتزامن مع وقف إطلاق النار، تتم الدعوة العاجلة إلى عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم وأعمالهم في ربوع اليمن، وتقديم العون والمساعدة اللازمين لهم، وكذلك عودة الأحزاب والقوى السياسية لممارسة نشاطها بحرية من الداخل.
5. توحيد الموقف من الحرب
إطلاق ثورة فكرية ثقافية شاملة يقودها نخبة من المفكرين والأكاديميين والمثقفين والإعلاميين والاقتصاديين، بهدف تشكيل موقف عام موحد لدى الشعب اليمني، يرفض رفضاً قاطعاً استمرار الحرب العبثية، ويدعو إلى حل النزاعات القائمة بين جميع القوى اليمنية المتناحرة، عن طريق الحوار البناء.
6. وقف الحرب الإعلامية
بالتزامن مع وقف إطلاق النار، يجب وقف حملات التحريض الإعلامي المتبادل بين الطرفين، وإشاعة الروح الوطنية الجامعة، والمساعدة الفعالة في تهيئة الأجواء المناسبة للمصالحة الوطنية الشاملة واستعادة السلم الدائم والحياة الديمقراطية المزدهرة إلى اليمن السعيد.
إن الشباب اليمني الذين تبتلعهم الحرب الدائرة، هم أحق بأن يكونوا سواعد بناءة في مسيرة التنمية والتطور والازدهار، والدمار العمراني والمجتمعي والنفسي الذي لحق باليمن، هو أَوْلَى بأن ينزل على الفساد المستشري والجهل المدقع والاستبداد المقيت، والقادة الذين يمضون جل وقتهم ليلاً ونهاراً في التخطيط للمعركة وإدارتها، وفي صناعة الموت والدمار للوطن والشعب، هم أَوْلَى بأن تتوحد جهودهم الخيرة لتخطيط مستقبل اليمن المشرق وبنائه على أسس وطنية صلبة توفر للأجيال القادمة الاستقرار والأمن والتقدم والرخاء.